يقول: «نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدر».
أفصح نثر تقرأه بعد القرآن والحديث لا يساميه قائل ولا يدانيه كاتب.
وإني أرى أن هذا الكتاب (كتاب الرسالة) ينبغي أن يكون من الكتب المقروءة في كليات الأزهر وكليات الجامعة،
وأن تختار منه فقرات لطلاب الدراسة الثانوية في المعاهد والمدارس؛ ليفيدوا من ذلك علمًا بصحة النظر وقوة الحجة،
وبيانًا لا يرون مثله في كتب العلماء وآثار الأدباء.
((منهجنا في التعليق على رسالة الشافعي
ومدى موافقتها لما عليه مدراس التحقيق للتراث))
كتب الدكتور علي ونيس الأجهوري:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ….
للتعليق على النص مناهج ومدارس لابد من التنبيه عليها وبيان المذاهب فيها
وقد انقسم العلماء المهتمون بالتحقيق والتعليق على كتب التراث إلى ثلاث مدارس:
1- مدرسة ترى أن التحقيق هو ضبط النص فقط وإخراجه صحيحا ولا ترى إثقال الحواشي بالتعليق ،
وعلى رأس هذه المدرسة المستشرقون ومن اتبعهم .
وممن كان يصرح لي بذلك أستاذنا الكبير الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى
حتى قال مرة: من زاد في هامش الكتاب كلمة فوق ما يخدم النص، فإنه يُعَزَّر، ثم ضحك رحمه الله.
2- المدرسة الثانية :
ترى أن من الواجب على المشتغل بتحقيق الكتب التعليق على النص،
دون إثقال الحواشي بالتعريفات والتعليقات المشهورة ،
وارتأى الدكتور بشار عواد هذا الرأي في كتابه ((ضبط النص والتعليق عليه))
3 – ويرى فريق ثالث
أن المحقق يمكنه أن يخدم النص بتوسيع التعليق عليه في بعض المواضع أو في أكثرها
وقصد المحقق من هذا هو إيصال معلومات لقارئ النسخة قد يستغرق وقتا طويلا حتى يصل إليها، لكن للتوسع في التعليقات شروط:
أولها: أن يتقيد بموضوع الكتاب فلا يخرج عنه إلى مسائل لا تمت إلى موضوع الكتاب.
ثانيها: أن يكون تعليقه حول كلام المصنف، إما تفصيلا لمجمل، أو بيانا لمبهم، أو تحقيقا لقول اختلف النقل عنه فيه،
أو تحقيقا لقول مذهبه الفقهي أو الأصولي (إن كان الكتاب في فقه أو أصول أحد المذاهب الأربعة)، وكذلك في سائر العلوم
وممن درج على هذه الطريقة:
الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، كما في تحقيقه لـ((الرفع والتكميل)) للكنوي
والأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، كما فعل في شرح ابن عقيل، وكتب ابن هشام وغيره، وذلك في مواضع كثيرة
والأستاذ عبد الله دراز، كما في تحقيقه للموافقات، وذلك في مواضع منه
ثالثها: أن يدور ما يكتبه في التعليقات الطويلة حول مسألة يريد تقريرها؛ بشرط ان تكون المسألة غير مقرة في الكتاب،
أو يكون العلماء قد اختلفوا في تاويلها؛ لعدم وضوح قصد المصنف منها (ولذلك أمثلة كثيرة في تعليقنا على الرسالة)
عملنا في التعليق على رسالة الشافعي:
لما كانت الرسالة من الكتب المهمة التي تتميز بمصطلحاتها الخاصة بها في مواطن كثيرة،
وكانت كذلك بمثابة اللبنة الأولى التي بنى عليها من جاء بعد مؤلفها، مما أضفى عليها طابع الاختصار والاقتصار؛
احتاجت إلى ما يفك بعض رموزها، ويشرح بعض مختصرها، ويناقش بعض ما اعتُرِضَ به عليها، فكان عملنا كالتالي:
أ _ التعليقات الأصولية والفقهية.
1 _ مناقشة الردود التي ردوا بها على الشافعي، والمآخذ التي أخذوها عليه.
ومثل هذه التعليقات لا شك في أن ارتباطها وثيق جدا بموضوع الكتاب،
بل من اللازم على المحقق أن يعلق عليها بصورة واضحة لتبان مدى قوة أو ضعف ما اعترض به عليه.
ومن أهم من انتقد الإمام في بعض المسائل: داود الظاهري، والجاحظ، والرازي، كما في ((المحصول))
ومناقشه مثل هذه الانتقادات تحتاج إلى بسط وبيان، ولا يكفي فيها مجرد الإشارة
2 _ إثبات ما للشافعي في بعض المسائل من أقوال له، أو طرق، أو وجوه للأصحاب، مع الترجيح في القليل النادر.
ولا شك ان مثل هذا المر يفيد جدا في تحرير رأي الشافعي خصوصا والشافعية عموما،
كما انه قد يستغرق عدة صفحات لتحقيق القول فيها.
3 _ إضافة بعض المسائل التي لم يذكرها الشافعي في الرسالة في بعض الأبواب دون استقصاء لذلك.
ومما رأيناه مفيدا في ذلك؛ أن يطلع قارئ الرسالة على رأي الشافعي الأصولي في المسسائل التي لم يذكرها في الرسالة،
أو لم يصرح بذكرها، ولا شك انا فائدة تجمع شتات علم الإمام في المسائل الأصولية، وذلك لا يؤثر على نص الرسالة في شيء
4 _ مقارنة بعض المصطلحات التي ذكرها الشافعي مع مصطلحات علماء الأصول بعد استقرار هذا العلم،
نظرا لاتحاد معناها وإن اختلفت ألفاظها.
ولا شك أن قارئ الرسالة قد يستغرب بعض المصطلحات التي يعبر عنها أهل الأصول بعد الشافعي بمصطلحات أخرى،
فبدلا من أن يرجع القارئ إلى كتب الأصول لتحرير هذه المصطلحات،
قمنا بعمل مقارنة بينها وبين ما اصطلح عليه المتأخرين عن الشافعي.
ب _ التعليقات الحديثية:
1 _ بسط بعض المباحث الحديثية التي تميز بها الشافعي بين الأئمة، كمبحث حديث الآحاد،
ومبحث العمل بالمرسل ومبحث الرواية على الإبهام، وغيرها.
وهذه المباحث من المباحث التي اشتهر كلام الإمام فيها، وتناولها أهل العلم بمصطلح الحديث بالشرح والنقد والتوجيه والعتذار،
وغير ذلك مما يعرفه من عانى النظر في كتب الأماجد من أهل هذا الفن،
وقد رجعنا إلى كتب كثيرة فصلت الكلام حول ما ذكره الإمام الشافعي في الرسالة من مباحث حديثية،
وأهمها ((شرح علل الترمذي)) لابن رجب
2 _ تخريج الأحاديث الواردة في (الرسالة) مع الالتزام بتخريجها من الكتب التي روتها من طريق الشافعي أولا،
ثم ما كان من غير طريقه بعد ذلك، إلا إذا دعت الحاجة إلى مخالفة ذلك.
ولعلمنا وتيقننا من أن العصمة لكتاب الله وحده، وأن جميع من ألفوا أو نشروا أو حققوا، لا يعرى عملهم عن خطأ أو سهو أو نسيان،
فإننا نتقبل أي وجهة نظر تخالفنا في هذا المنهج الذي ارتضيناه، والذي سبقنا إليه عدد من أهل العلم.
كما أننا لا نرى أن في التعليقات التي ذكرناها إسرافا ممجوجا، أو تطويلا مملا، لأن الكلام ما دام في صلب خدمة الكتاب،
وبيان منهج مصنفه، وتجلية ما يغيب عن كثير من القراء من مسائل؛ فإنه مما تدعو إليه الحاجة، ويتقبله القارئ.
ولعل ما فعلناه يكون نواة لشرح أعمل فيه الآن لكتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمة الله عليه.
ومع ترجيحنا لما اخترناه، فإننا لا نحرج على أحد في اختيار غيره، أو انتقاد ما اخترناه، فلكل وجهة هو موليها،
وطريقة في نشر العلم يرتضيها، وكل ذلك مشروط بالمحافظة على أصل الكتاب المحقق.
كتب الدكتور علي ونيس
(حالة قلق اعترتني أثناء تحقيقي لكتاب الرسالة))


قال صلى الله عليه وسلم: ((…لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ…)) رواه مسلم (479)
ترددت كثيرا في ذكر هذه الرؤيا في النسخة المطبوعة من الكتاب، ولم أكتبها بالفعل،
وترددت كثيرا قبل أن أكتب هذا المقال،
إلا أنني تذكرت الحديث الصحيح:
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالرُّؤْيَا السَّوْءُ مِنَ الشَّيْطَانِ،
فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا فَكَرِهَ مِنْهَا شَيْئًا فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لَا تَضُرُّهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً،
فَلْيُبْشِرْ وَلَا يُخْبِرْ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ» رواه مسلم (2261)
وأنا أحب جميع من يتابعني وجميع المسلمين في الله؛ لأنهم وحدوا الله، وهذا يكفي أن يكون سببا لمحبتهم.
1 – لما بدأت في تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله، كان يختلج في صدري شيء من الخوف هيبة
لكتاب الرسالة الذي حققه كبارٌ من علماء الأمة، وقبل ذلك هو من تأليف رجل يُحتج به في اللغة،
فضلا عن أنه إمام من أئمة الفقه الذين دونت مذاهبهم وتوبعت ونقحت.
2 – شددت على نفسي كثيرا في مقابلة النسخ ومراجعتها عدة مرات، حتى أعدت مقابلة النسخ الخطية مرتين،
وهي تسع نسخ، مع مراجعتها عدة مرات.
3 – راجعت عددا كبيرا من الدراسات الجامعية حول كتاب الرسالة، من ناحية المنهجية،
وكذلك من حيث موضوعات كتاب الرسالة، واستخلصت ما فيها من فوائد.
4 – حرصت حرصا شديدا على مراجعة ضبطها، حتى تمت مراجعة الضبط خمس مرات، منها مرتين من مراجعتي.
5 – تعقبت العلامة شاكر في كثير من المواضع واثبت بالدليل صحة ما أثبته مما نفاه او نفي ما أثبته،
وذلك عن طريق النسخ المخطوطة، أو ما نقله العلماء عن الرسالة مما يثبت صواب ما ذهبت إليه في تقويم النسخ.
6 – استوفيت المباحث الحديثية والفقهية والأصولية، وخرجت الأحاديث التي حواها كتاب الرسالة من طريق المصنف اولا،
ثم عرجت عليه بالتخريج المعتاد (وساعد في هذا فريق عمل منضبط بالخطة التي وضعناها)
7 – أثبت خلاف الأصحاب في فهم كلام الشافعي، وانتهيت إلى المعتمد عندهم في المذهب، وذلك بعد عرض خلاف الأصحاب.
8 – أوليت المسائل المشهورة عن الإمام عناية خاصة، كمراسيل سعيد، والرواية عن الثقة،
والرواية على الإبهام، والمرسل، فكل هذا مما توسع فيه الإمام وكثر اختلاف الناس في فهم كلامه فيه.
9 – أعطيت نماذج من الكتاب لإخوة طلبة علم كبار للنظر فيها وإبداء الرأي، فاستحسنوا ما فيها منجهد،
وذكروا لي ان في هذا التحقيق ما هو جديد.
10 – رقمت فقرات الرسالة على ترقيم الشيخ شاكر رحمه الله.
11 – رددت على الانتقادات الموجهة للرسالة قديما وحديثا، وعلى رأسها انتقادات داود بن علي الظاهري، والرازي، وغيرهما.
12 – قمت بعمل دراسة وافية عن الإمام الشافعي، وعن كتابه الرسالة، فأتممت فيها مجلدا كاملا، وذلك بعد الاختصار.
13 – وبعد هذا وغيره كنت قلقا جدا، وتمنيت أن يمن الله تعالى علي بما يثبت قلبي،
حتى بشرني أحد الإخوة بأنه رأى اسمي مكتوبا على كتاب عتيق جدا، ولم يكن يعلم أني أعمل في كتاب الرسالة.
14 – ثم منَّ الله علي بعد ذلك برؤية الإمام الشافعي _رحمه الله_ وقد دخل علي في غرقتي التي أمارس فيها عملي العلمي،
وكتاب الرسالة موضوع بين يدي على المكتب الصغير المتواضع الذي أجلس عليه،
ثم وضع يده اليمنى على كتاب الرسالة، ونظر إلي كأنه راض عن صنيعي ثم انصرف.
اللهم تقبل هذا العمل، واجعله نافعا لي ولعموم المسلمين.
المراجعات
لا توجد مراجعات حتى الآن.